ولا أَعني -فيما قلتُ- الحُكْمَ بكُفرِ أمثالِ اليَهودِ والنَّصارى والوَثنيِّين والمُلحِدين، فهؤلاء ثبَتَ كُفرُهم في أصلِ الدِّينِ، لذلك سُمُّوا بالكُفَّارِ الأَصليِّين، بل أعني مَن يَعتنِقون الإسلامَ ثم يَرتكِبون شيئًا من نَواقِضه جَهْلًا أو خَوْفًا أو لشُبْهةٍ أو لمطامحَ دُنيويَّةٍ | ١٤- قبل أن نَنْعى على عُلَماءِ الدعوةِ السَّلَفيَّةِ تكفيرَهم لمُخالفيهم ينبغي -ومن بابِ العدْلِ- أنْ ننظُرَ إلى موقِفِ مُخالفيهم منهم |
---|---|
الباب الثاني: النهضة العلمية: أراد المؤلّف من هذا الباب أن يبين فيه منزلةَ علماء الدعوة وتميزهم في العلم، وظهور ذلك جليًّا في مراسلاتهم ومكاتباتهم للعلماء وردودهم على كثير من القضايا الخاطئة التي كانت مُثارةً في ذلك الوقت | ولم يتَسَنَّ لهم التمكينُ ولم تَنْقَدْ لهم القلوبُ وتَرْتَضْ لهم سِباعُ الجَزيرةِ إلا بالدعوةِ |
يؤكّد المؤلف أنَّ هذه الحادثة التي وقعت عام 1216هـ تُضخَّم من قبل المعادين للدعوة النجدية دون نظرٍ في أسبابها وحقيقتها، وتلك الحادثة وقعت بعد عدَّة حوادث اعتداء على القرى والبادية السعودية، بل وقوع اعتداء على بعض حملات الحج وقتل عدد منهم، وكان موقف الدولة السعودية واضحًا، حيث طالبت بالدية بموجب الاتفاقيات الموجودة آنذاك، ولم يرض والي بغداد، ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل حاولت عدة مرات غزو مدن سعودية منها: الأحساء عام 1213هـ بأمر سليمان باشا والي بغداد، فرأت الدولة أن تضع حدًّا لكلِّ تلك الاعتداءات، فردَّت عليهم بالمثل، ودخلت كربلاء عام 1216هـ.
27ولا أنقُلُه كمُبرِّرٍ للتكفيرِ، فعُلماءُ الدَّعوةِ لا يُكفِّرون مَن كفَّرَهم، إلا إنْ كان مُستحِقًّا لإنزالِ الحُكْمِ عليه مِن وجهٍ آخَرَ، لكنني أنقُلُه لمَن برَّأَ ساحةَ خُصومِ الدَّعوةِ وأنزَلَ كَلْكَلَه عليها | وختم المؤلف كتابه ببيان دعوى الشدّة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلاقتهم بالمجتمع وولاة الأمر |
---|---|
ثم عرج المؤلف إلى قضية تكفير البلد لو صدَر من بعض علماء الدعوة، وبيّن أنَّ هذا لا يعني تكفير الأفراد أولا، ثم إنه قد يقصد به ناحية معينة ظهر فيها الشرك ظهورًا بينًا، ومثل هذه الكلمات التي تظهر في المراسلات يجِب أن تردَّ إلى كتبهم وتأصيلهم | على أنَّ ضرورةَ تَقبُّلِ النَّقْدِ والمراجَعةِ يَستخدِمها البعضُ وَتَرًا يَطرُقون عليه لتَمريرِ طُعونِهم، ويَعْنون بذلك ضرورةَ التسليمِ بالنَّقْدِ الصادِرِ منهم خاصَّةً دونَ مناقشةٍ، وأمَّا النَّقْدُ المُوجَّهُ لنَقْدِهم فهو دليلٌ على الانغلاقِ ورفضِ وِجْهةِ النظَرِ المُخالِفةِ |
لهذا تَطَلَّبَ تَقييمُ كِتابِ الدُّرَرِ السَّنِيَّةِ فَهْمَ العُصورِ التي كُتِبَتْ فيها نُصوصُه، ومَن استهانَ في هذا الجانبِ وقَيَّمَ هذه المُدَوَّنةَ دون دِراسةٍ لعَصرِها فقد أَبلَغَ في الشَّطَطِ، وهذه القاعدةُ صحيحةٌ في جميعِ الكُتُبِ وليس الدُّرَرَ السَّنِيَّةَ وَحْدَها.
بل زادَ -رحِمَه اللهُ- في نَقلِه لشهادةِ أحَدِ مَن حضَر الوقائعَ: أنَّ جُنودَهم لم يكونوا يَتديَّنون بدِينٍ، ولا يَنتحِلون مَذهَبًا | وخُلاصةُ الرَّدِّ على الفريقِ الأوَّلِ: أنَّ الرِّدَّةَ والكُفْرَ ليسا مُستحيلَينِ على أهلِ نَجْدٍ ولا على أيٍّ من أمَّةِ محمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقد ارتدَّ فِئامٌ من العرَبِ في حياةِ النبيِّ وبعدَ وَفاتِه، وكانوا قبْلَ أن يَرتدُّوا من أمَّتِه، وكانوا بعد رِدَّتِهم يَشهَدون أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وأنَّ مُحمدًا رسولُ اللهِ، لكنَّ شَهادتَهم هذه لم تَعصِمْهم من الرِّدَّةِ، فبَنُو حَنيفةَ كانوا لا يُقِرُّون بخَتْمِ النبُوَّةِ وصَدَّقوا كَذَّابَهم أنه بُعِثَ نَبيًّا، وبَنو تَميمٍ لم يُنكِروا الشهادتينِ، وإنما مَنَعوا الزَّكاةَ على اعتبارِ أنها ليستْ رُكنًا من أركانِ الإسلامِ، وبنو أسَدٍ مِثلُ بني حَنيفةَ صَدَّقوا طُلَيْحةَ الأسَديَّ في دَعْوى النبوَّةِ ولم يُنْكِروا الشهادتينِ |
---|---|
بل حتى دولةُ السَّلاجِقةِ، ومِن بَعدِها الدولةُ الأيُّوبيَّةُ، بالرَّغْم مما قدَّمَتَاه من إنجازاتٍ للإسلامِ والمسلمينَ، إلَّا أنَّ أساسَ قِيامِهما وعِزِّهِما وقُوَّتِهما لم تكن دَعْوةَ التوحيدِ | وأكَّد المؤلف على أنَّ التَّأصيل للمسألة هو الأصل في مناقشة تلك المسائل، أمَّا التطبيق فإنه قد خفِي علينا من المناطات والمراسلات وإقامة الحجّة والأسباب التي وقعت في ذلك العصر ما يجعل حكمنا غيرَ دقيق، ومع ذلك فإنَّنا نقول: إنَّ التطبيق في الأصل نابع من التأصيل الشرعي، وعلى هذا كان علماء الدعوة ومن عرف علمهم وتأصيلهم لقضية الكفير يدرك أنه لا يمكن أن يصدر منهم حكم على معين إلا بعد تحقّق الشروط وانتفاء الموانع |
فهؤلاء هم الذين أُوصِي طُلَّابَ العِلمِ -فضْلًا عن عَوامِّ المُسلِمين- بالبُعدِ عن الخَوضِ في حالِهم، كما أُوصِي أهلَ العِلمِ أن يُجنِّبوا الناسَ الوُقوعَ فيها، ويَجعَلوا نِقاشَهم لها في الدوائرِ العِلميَّةِ الضيِّقةِ؛ من معاهدَ عِلميَّةٍ، ومَجامعَ فِقهيَّةٍ، ودَوريَّاتٍ بَحثيَّةٍ مُتخصِّصةٍ، فإنَّهم مُؤتمَنون على عُقولِ الناسِ وأديانِهم، وما أوقَعَ الأمَّةَ في كثيرٍ مما وقعَت فيه اليومَ إلا نَثْرُ المَضنونِ به على غيرِ أَهلِه.
28